يُروى أنها كانت تعيش في أعظم قصر في زمانها وكان تحت تصرفها الكثير من الجواري والعبيد وحياتها مرفهة ،متنعمة .أما زوجها الفرعون فقد طغى وتجبر وأراد أن يقدسه الناس فنصب نفسه إلها عليهم، وأصدر قرار الألوهية من قصره فقال : أنا ربكم الأعلى .بدأت قصة آسية بنت مزاحم حينما استقر أمام قصرها الصندوق الذي يحوي موسى الرضيع ، فلما وجد الجواري الصندوق ،أحضروه لها ولم يفتحوه، فكانت هي أول من فتحه وألقى نظرة على ما به .
ويا لروعة ما رأت نور تلألأ في وجه طفل صغير، نور النبوءة منبعث منه، ويغطي بنوره نور المكان ، وما أن وقع بصرها عليه حتى أحبته حباً شديداً ، وكانت له حائط الصد من ظلم فرعون .
فلما جاء فرعون وأراد قتل الطفل، منعته آسية وقالت له : فلنتخذه ولدًا ينفعنا، رفض فرعون في البداية ولكن تحت إلحاح من السيدة العظيمة آسية وافق أن تربيه .
قال تعالى :* وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُون *
فرحت كثيرًا بتلك الهبة التي بعثت لها، وأخذت تبحث له عن المراضع، ولكن الطفل لم يستجيب لهن ،حتى أتت أخته التي كانت تتبع سير الصندوق في اليوم نفسه، وقالت أعرف مرضعة لن يرفضها طفلكم، وعلى الفور أمرت السيدة آسية بإحضارها ، فكانت يوكابد أم موسى .
وما أن حملته يوكابد أمه الحقيقية حتى لثمها الصغير وأخذ يرضع بطمأنينة دون بكاء، تشاركت الاثنتين في حب موسى الأم التي أنجبت وأرضعت ،والأم التي حمت وربت .
قال تعالى: *وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِ ولا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ*
كان موسى السراج الذي أضاء قصر الفرعون ، فلما علمت آسية بأمر نبوته بعد أن كبر صدقته ولكنها لم تعلن إيمانها خشية فرعون .حتى علمت بأمر ما حدث من موسى مع السحرة بعد أن ألقى عصاه التي تحولت ثعبانًا عظيمًا التهم كل ثعابين السحرة .
تيقنت السيدة آسية من دين موسى، وشع نور الإيمان من قلبها ،وأعلنته حينما قتل فرعون ماشطة ابنتها وصغارها لإيمانها بإله غيره .حتى الرضيع لم يرحمه فأنطقه الله حتى يثبت أمه ويصبرها على الابتلاء العظيم ، لم تصمت السيدة آسية عن الحق وهاجمت فرعون على ما فعل، فالماشطة كانت مؤمنة بالله واعتبرتها آسية أختها في الإيمان .
فرعون الذي نسي أنه كان نطفة، هذا المتكبر بكل ما يملكه من مال وجنود وعبيد، تحداه أقرب الناس إليه زوجته بنت مزاحم .
جاءت آسية إلى زوجها المتكبر عندما قتل الماشطة التي كانت تمشط ابنتها، الماشطة التي قالت لفرعون متحدية : ربي وربك الله.نتيجة لذلك التحدي قذفها في زيت يغلي هي وأولادها .فلم ترض زوجته آسية عندما أخبرها عن أمر الماشطة .قالت له : الويل لك ما أجرأك على الله .فقال لها : لعلك اعتراك الجنون الذي اعترى الماشطة ؟فقالت : ما بي من جنون ولكني آمنت بالله رب العالمين .وبعد ذلك دعا فرعون أمها فقال لها : إن ابنتك قد أصابها ما أصاب الماشطة !فأقسم لتذوقن الموت أو لتكفرن بإله موسى .فخلت بها أمها تقنعها وأرادتها أن توافق فرعون، ولكنها أبت .وقالت : أما أن أكفر بالله فلا والله .
وعندما رأى فرعون تمسكها بدينها وإيمانها خرج على الملأ من قومه فقال لهم : ما تعلمون من آسية بنت مزاحم ؟فأثنى عليها القوم كثيراً .فقال : إنها تعبد ربا غيري !فقالوا : أقتلها إذاً .
و لما عجز فرعون عن ردها عن دينها، أمر جنده بأخذها لصحراء مصر القاحلة و ربط يديها و رجليها بين أربعة أوتاد و تركها بلا ماء و لا طعام تحت الشمس الحارقة !
يقال ظلت على تلك الحال لمدة ثلاثة أيام، ومع كل هذا العذاب وكل تلك الحيوانات وحشرات الصحراء التي تمر عليها في كل لحظة ،أبت أن ترجع عن دين الحق .في اليوم الأول مر عليها فرعون قال لها : ألا تتراجعين ؟فقالت : لا والله، ما زادني هذا إلا إيماناً و يقيناً .وفي اليوم الثاني أيضا مر عليها فرعون : ألا تتراجعين ؟فقالت : لا والله ما أتراجع عن دين الحق .وفي اليوم الثالث قال لها : ألا تتراجعين ؟قالت : لا أتراجع .قال فرعون : اقتلوها، واحملوا صخرة إلى أعلى مكان ثم ارموا الصخرة عليها من فوق، فإن رجعت عن قولها فهي امرأتي.وأخذ يتلذذ بتعذيبها وهذا شأن الطغاة في كل زمان، وفي أثناء ذلك نظرت إلى ما عند الله فقالت :قال تعالى :
*وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ*
و كشف الله عن بصيرتها فأطلعها على مكانها في الجنة، ففرحت وضحكت وكان فرعون حاضراً هذا المشهد !فقال : ألا تعجبون من جنونها ؟ إنا نعذبها وهي تضحك !فقبض الله روحها رضي الله عنها .. وألقيت الصخرة عليها، فلم تجد آلما لأنها ألقيت على جسد لا روح فيه، فقد توفيت قبل رمي الصخرة.
فاستحقت أن تكون من نساء الجنة الخالدات.وصدق رسول اللَّه صل الله عليه وسلم ” حين قال: “كمل من الرجال كثير. ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام”
[البخارى ومسلم والترمذى وابن ماجة].
هنئاً لك يا آسية فالسعادة تكمن في حب الله .