قصة الخياط الذي أذن في غير وقت الصلاة – توتي توتي
ذكر أن رجلاً من ضعفاء الناس كان له على أحد الأمراء البخلاء مال كثير، فماطله ومنعه حقه، وكلما طالبه به آذاه، وأمر غلمانه بضربه، فاشتكاه إلى قائد الجند، فما زاده ذلك إلا منعاً وجحوداً.فقال هذا الرجل المسكين:فلما رأيت ذلك، يئست من المال الذي عليه، فبينما أنا كذلك وأنا حائر إلى من أشتكي همي .إذا قال لي رجل : ألا تأتي فلاناً الخياط أمام المسجد.فقلت : ما عسى أن يصنع خياط من هذا الظالم ؟ وأعيان الدولة لم يتمكنوا من اقناعه .فقال : الخياط هو أقطع وأخوف عنده من جميع من اشتكيت إليه، فاذهب لعلك أن تجد عنده فرجاً.قال الرجل : فقصدت الخياط غير متفائلا بأمره، فذكرت له حاجتي ومالي وما لقيت من هذا الظالم.
فقام وأقفل دكانه، ومضى يمشي بجانبي حتى وصل إلى بيت الرجل، وطرقنا الباب، ففتح الأمير الباب مغضباً، فلما رأى الخياط، فزع وأكرمه واحترمه .فقال له الخياط : أعط هذا الضعيف حقه،فأنكر الرجل وقال : ليس له عندي شيء.فصاح به الخياط وقال : ادفع إلى هذا الرجل حقه وإلا أذنتْ..!!فتغير لون الرجل ودفع إلي حقي كاملاً، ثم انصرفنا وأنا في دهشة مما حدث أمامي .فأنا في أشد العجب من هذا الخياط مع رثاثة حاله، وضعف بنيته كيف إنقاد ذلك الكبير له.ثم إني عرضت على هذا الخياط شيئاً من المال فلم يقبل.وقال لي : لو أردت هذا لكان لي من المال شيء لا يحصى .فسألته عن خُبره وذكرت له تعجبي منه ومما حدث ،فلم يلتفت إليّ فألححت عليه كثيراً .وقلت له : لماذا هددته بأن تؤذن ؟!.فقال : قد أخذت مالك فاذهب.قلت : لا بد والله أن تخبرني .فقال : إن سبب ذلك أنه كان قبل سنين في جوارنا رجلا تركي من أعالي الدولة وهو شاب حسن جميل، فمرت به ذات ليلة امرأة حسناء قد خرجت من الحمام وعليها ثياب مرتفعة ذات قيمة..
فقام إليها وهو سكران فتعلق بها يريدها على نفسها ليدخلها داره وهي تأبى عليه وتصيح بأعلى صوتها وتقول : أنا امرأة متزوجة، وهذا رجل يريدني على نفسي ويدخلني داره وقد حلف زوجي بالطلاق أن لا أبيت في غير داره، ومتى بت ها هنا طلقت منه، ولحقني عار ومذلة مدى الحياة فلا تغسلها الأيام .فأكمل الخياط وقال : فقمت إليه فأنكرت عليه وأردت خلاص المرأة من بين يديه فضربني بسكين في يده فشج رأسي وأسال دمي .وغلب المرأة على نفسها فأدخلها بيته قهراً .فرجعت فغسلت الدم عني وعصبت رأسي، وصحت بالناس و قلت :إن هذا فعل قد علمتم به فقوموا معي إليه لننكر عليه ونخلص المرأة منه.فقام الناس معي فهجمنا عليه في داره فثار إلينا في جماعة من غلمانه بأيدهم العصي والسكاكين يضربون الناس.وقصدني هو من بينهم فضربني ضرباً شديداً مبرحاً حتى أدماني تانية ،وأخرجنا من بيته ونحن في غاية الإهانة والذل.فرجعت إلى بيتي وأنا لا أهتدي إلى الطريق من شدة الوجع وكثرة الدماء، فنمت على فراشي فلم يأخذني النوم، وتحيرت ماذا أصنع حتى انقذ المرأة من يده في الليل لترجع فتبيت في بيتها حتى لا يقع عليها من زوجها الطلاق وغير هذا فهي استنجدت بنا وليس من المرؤة تركها تواجه مصيرها لوحدها .فألهمت أن أؤذن للصلاة الصبح أثناء الليل لكي يظن أن الصبح قد طلع فيخرجها من داره فتذهب إلى بيت زوجها .فصعدت المنارة وبدأت أؤذن وأرفع صوتي، وجعلت أنظر إلى باب داره هل أرى المرأة خرجت أم لا ثم أكملت الأذان فلم تخرج .ثم عزمت على أنه إن لم تخرج أقمت الصلاة حتى يتحقق الخبيث أن الصباح قد خرج، فبينما أنا أنظر هل تخرج المرأة أم لا، إذ امتلأت الطريق فرساناً ورجالاً.وهم يقولون : أين الذي أذن هذه الساعة ؟ وينظرون إلى منارة المسجد !!فصحت بهم : أنا الذي أذنت، وأنا أريد أن يعينوني رجلا فرساناً عليه.فقالوا : انزل ! فنزلت.فقالوا : أجب الخليفة إنه في انتظارك ،ففزعت، وسألتهم بالله أن يسمعوا القصة فأبوا، وساقوني أمامهم وأنا لا أملك من نفسي شيئاً حتى أدخلوني على الخليفة .فلما رأيته جالساً في مقام الخلافة ارتعدت من الخوف وفزعت فزعاً شديداً .فقال : اقترب .. فاقتربت منه وأنا أرتجف .فقال لي : ليسكن روعك وليهدأ قلبك ولتطمئن، وما زال يلاطفني حتى اطمأنت نفسي، وذهب خوفي.فقال لي : أنت الذي أذنت هذه الساعة ؟فقلت : نعم يا أمير المؤمنين .فقال : ما حملك على أن الأذان ولم يحن وقته ؟.. وقد بقي من الليل أكثر مما مضى منه ؟ فتغر بذلك الصائم والمسافر والمصلي وتفسد على النساء صلاتهن .فقلت : يؤمنني أمير المؤمنين حتى أقص عليه خبري ؟فقال : أنت آمن، فذكرت له القصة، فغضب غضباً شديداً .وأمر بإحضار ذلك الرجل والمرأة فوراً دون تأخير ،فأحضروهما سريعاً..فبعث بالمرأة إلى زوجها مع نسوة من جهته ثقات .ثم أقبل على ذلك الرجل فقال له :كم لك من الرزق ؟وكم عندك من المال ؟وكم عندك من الجواري والزوجات ؟فذكر له شيئاً كثيراً فقال له : ويحك أما كفاك ما أنعم الله به عليك حتى انتهكت حرمة الله وتعديت على حدوده وتجرأت على السلطان ؟!وما كفاك ذلك حتى عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته وأدميته ؟! فلم يكن له جواب إلا الأذان .فأمر به فجعل في رجله قيد، وفي عنقه غل، ثم أمر به فأدخل في كيس، وهذا الرجل يصيح ويستغيث، ويعلن التوبة والإنابة.والخليفة لا يلتفت إليه، ثم أمر الخليفة به فضرب بالسكاكين ضرباً شديداً حتى خمد .ثم أمر به فألقي في دجلة فكان ذلك آخر العهد .ثم أمر الخليفة صاحب الشرطة أن يحتاط على ما في داره من الأموال التي كان يتناولها من بيت المال .ثم قال لي : كلما رأيت منكراً صغيراً أو كبيراً ولو على هذا، وأشار إلى صاحب الشرطة ، فأعلمني على الفور .فإن اتفق اجتماعك بي كان طيباً وإن منعوك عني، فعلامة ما بيني وبينك الأذان، فأذن في أي وقت كان، أو في مثل وقتك هذا وسأجيبك على الفور .فقلت : جزاك الله خيراً.. ثم خرجت..فلهذا : لا آمر أحد من هؤلاء بشيء إلا فعلوه، ولا أنهاهم عن شيء إلا تركوه خوفاً من الخليفة المعتضد، وما احتجت منذ ذلك الوقت أن أؤذن في مثل تلك الساعة إلى الآن، والحمد لله .
قال صلى الله عليه وسلم : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان …
error: النسخ ليس ممكناً