كان ياما كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان كان يروى عن شاب ناعم لا يحسن عملا إلا اللهو وكثر الكلام. كان يتزين ويتعطر ويلبس أفخر الثياب ويمضي أكثر وقته دون فائدة.
هذا الشاب كان يدعى نزهون ،عندما مات والده ترك له مالا كثيرا ومتجرا كبيرا ولكنه لم يكن يهتم بحفظ ماله ولا بمصالح متجره ،فلولا حسن تدبير أمه العجوز الصالحة لافتقر بعد غنى وشقى بعد سعادة ولم يجد عطفا من قريب ولا غريب.
وكان من عادته في كل مساء ،أن يضع كل ما اجتمع له من مال التجارة في كيس فيحمله إلى أمه ،ثم يخرج إلى حيث ينتظره بعض أصدقائه ،فيقضون ليلهم في اللهو والعبث فلا يعود نزهون إلى داره إلا بعد أن ينتصف الليل …وكان من عادة أمه إذا أخذت منه الكيس ،أن تضعه في صوان في إحدى غرف الدار ،ثم تقفل الغرفة بقفل ثقيل ،وتحفظ المفتاح في مكان لا تصل إليه يد …عرف اللصوص عادة نزهون ،فتربص له أحدهم ذات ليلة حتى أقفل متجره ،وحمل كيسه ،وتبعه على بعد حتى وصل إلى الدار فدخل وراءه وهو لا يشعر وأخذت أمه الكيس منه ،فوضعته في الصوان ثم أقفلت الغرفة وأخذت المفتاح كل ذلك واللص مختبئ ،يرى كل شيء ولا يراه أحد.تناول نزهون طعام العشاء ثم أبدل ثيابا بثياب ،وتزين وتعطر كعادته ،وخرج فاستعد اللص للسرقة ،ولكن العجوز كانت يقظة واعية ،فلم تسنح له فرصة فظل في مخبئه ينتظر وهو يقول لنفسه : بعد قليل تنام المرأة العجوز ويخلو الجو …ولكن العجوز لم تكد تفرغ من طعامها ،حتى قامت فتوضأت ثم بسطت المصلى ،وبدأت تصلي وتذكر الله ؛ وكانت عجوزا صالحة ،كثيرة الصلاة والدعاء والعبادة ،لا تفارق مصلاها منذ أن يخرج ابنها نزهون إلى أن يعود من سهرته.طال الوقت على اللص وهو مختبئ ينتظر ،وخشي أن تضيع عليه الفرصة ،فأخذ يفكر في حيلة لسرقة الكيس ،وصعد إلى غرفة من غرف الدار فوجدا إزارا أبيضا ووعاء فيه بخور ؛ فالتف في الإزار ،وأوقد البخور ،فلما فاح عطره في الدار ،أخذ يهبط ،الدرج وهو يصيح بصوت غريب ،ليفزع العجوز ،وكانت لم تزل جالسة في مصلاها ؛ فلما سمعت الصوت ،أيقنت أنه لص ،فقالت بخوف وفزع : من هناك ؟فقال اللص بصوت رقيق : أنا ملك من السماء ،هبطت إلى الأرض لأؤدب ولدك على طيشه وسوء خلقه …فطنت المرأة إلى الحيلة ولكنها اصطنعت الخوف وقالت وهي كالمغشى عليها : رحمة به وبي أيها الملاك فإنه وحيدي وليس لي ولد غيره …أجابها اطمئني يا أماه ، فما جئت لأقتله ،بل لآخذ كيسه فيذوق طعم الفقر فيتأدب ،فإذا صلح حاله بعد ذلك رددته إليه …لم يكن للمرأة العجوز طاقة بمقاومة اللص ،فأوهمته أنها مؤمنة مصدقة لكلامه ،وفتحت له باب الغرفة وهي تقول : سلام الله عليك أيها الملك الكريم ،فادخل من هذا الباب تجد الكيس في الصوان …
ثم تنحت عن الباب حتى دخل الغرفة فأغلقتها عليه ،ووضعت على الباب قفلا ثقيلا ،وعادت إلى مصلاها آمنه مطمئنة ،تصلي وتذكر الله.أما اللص فقد أخذ الكيس من الصوان ،ثم التفت إلى الباب يريد أن يخرج ،فإذا هو مقفل لا يمكن فتحه ؛ فأخد يعالج بكل الوسائل لينفتـح فلم يستطع ،وبحث عن طاقة أو منفذ آخر للغرفة فلم يجد ،فأيقن بأنه قد وقع في الشرك.وصاح بالمرأة : افتحي يا أماه لأخرج ،فقد كفى ما كان ليتعظ ولدك !قالت المرأة :أخاف أيها الملك لو فتحت لك الباب ،أن يذهب نور عيني من ملاحظة نورك الباهر !قال: افتحي ولا خوف عليك ،فسأطفئ نوري كي لا يؤذي عينيك.قالت : ولماذا الخروج من الباب أيها الملك ؟ فاصعد من السقف أو اخرق الحائط بريشة من جناحك ؛ ولا تكلفني ذهاب بصري …عرف اللص أنها عجوز قوية القلب ،واعية ،فأخذ يرقق لها القول ،ويلين الحديث ،ويرجوها ،ولكنها لم تبال برجائه أو تستمع لاستعطافه ،وتركته حبيسا في الغرفة ،يكاد يموت غيظا ؛ وأقبلت على صلاتها وعبادتها حتى جاء ولدها.وكان الفجر قد اقترب ،فلم تخبر ولدها بشيء ،وتركته يأوي إلى غرفته لينام ؛ ثم اطفأت المصباح وظلت ساهرة تفكر في أمرها ،وأمر ولدها ،وأمر ذلك اللص ،حتى أشرق الصبح ؛ فدخلت على ولدها فأيقظته ،ثم قصت عليه القصة.سمع نزهون القصة صامتا ،فكأنما كان سكران فأفاق ؛ وقال لنفسه : هل اشتهر أمر عبثي ولهوي في المدينة إلى هذا الحد ،حتى طمع اللصوص في مالي ،وتجرؤوا على أمي ،فلولا يقظتها وقوة قلبها ،لافتقرت ،وافتضحت ،وضاع مالي ،وقتلت أمي ،فلا يبقى لي في الدنيا شرف ،ولا مال ،ولا أهل.ثم غادر فراشه مسرعا إلى الغرفة التي كان فيها اللص ففتح بابها.
وكان اللص واقفا في وسط الغرفة ،ينتظر حضور الشرطة للقبض عليه ،وهو يكاد يموت رعبا ،ولكنه لم ير غير نزهون مقبلا عليه يقول : لا بأس عليك أيها اللص الجريء ،فقد علمتني درسا لا أنساه ومن أجل ذلك أعفو عنك وأتوب على يديك.ندم اللص وقال : وانا أيضا تبت على يديك !بدعوات هذه المرأة الصالحة ،كنا شيطانين ،فاصبحنا عاقلين ،بفضل صلوات العجوز الصالحة.