يُحكى في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، وبالتحديد في عهد النبي سليمان قامت مملكة كبيرة اسمها سبأ ،تعدُّ مملكة سبأ من أهم الممالك التي وُجدت في التاريخ الإنسانيّ في عهد سيدنا سليمان عليه السلام، الذي آتاه الله مُلكًا عظيمًا وعلّمه مَنْطِق الحيوانات .
سميت المملكة بهذا الاسم، نسبة إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن أرفخشد، وشهدت عدة أنواع من أنظمة الحكم التي سادتها في فترة قيامها، أولها حكم الكهنة، ثم انتقل إلى الحكم الملكي .كان السبئيون يعبدون القمر والشمس وكوكب الزهرة، ولكل قبيلة إله يعقب الإله القومي، بالإضافة للإله عثتر أكبر الآلهة، والتي اجتمعت ممالك اليمن وقبائلها على تقديسه، وكانوا يتحدثون باللغة السبئية .
وكانت الملكة بلقيس ملكة مملكة سبأ من أهل اليمن في زمن نبوة النبي سليمان عليه السلام .و ذُكرت الملكة بلقيس في القرآن الكريم والكتاب المقدّس، وهي واحدةٌ من أشهر النساء في التاريخ القديم، أحاط الغموض سيرة الملكة بلقيس واختلفت المراجعُ التاريخيّة في تحديد اسمها ونسبها.لكنّ الغالبيّة قالوا بأنّها تُنسب إلى الهدهاد بن شرحبيل من بني يعفر، وكانت الملكة بلقيس سليلةَ حسبٍ ونسب، فقد ورثت المُلك عن أبيها الملك بولايةٍ منه لأنّه لم يُرزق بأبناء ذكور يولّيهم العرش.
بعد تولّيها عرش مملكة سبأ، استنكر قومها هذا الأمر، وقابلوه باستياءٍ وازدراء، وقد وصلت أصداء هذا النفور من قِبل قومها إلى خارج حدود المملكة، الأمرُ الذي أثار جَشع وطمع الطامعين في الاستيلاء على المملكة، من بينهم الملك ذي الأذعار عمرو بن أبرهة، وعندما علمت الملكة ما يضمره لها ذي الأذعار الذي أثار فتنةً في مملكتها، غادرت مملكتها متنكّرةً بزيّ رجل لتتمكّن من الرحيل دون أن يتبعها أحد، ودخلت عليه ذات يوم، وبقيت تَسقيه حتى أسكرته، وهو يتناول الأقداح منها معتقداً أنّها تغازله، وهكذا نالت منه وقتلته بفطنتها ودهائها، واستعادت شعبيتها ومملكتها المسلوبة منها بعد تلقين قومها الدرس.
تبدأ قصة الملكة بلقيس مع النبي الله سليمان عليه السلام عندما كان في أحد الأيام يتفقد الطير فلم يرَ الهدهد في مكانه، والهدهد لم يخبر نبي الله سليمان بأنه سيغادر مكانه ،ويتأخر في العودة فعزم على تعذيبه أو ذبحه إن عاد ولم يحمل معه عذرًا يشفع له ويفسر سبب غيابه.
فجاء الهدهد ووقف على مسافة غير بعيدة عن سليمان عليه السلامقال تعالى : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)
فقال الهدهد أن أعلم منك بقضية معينة، فجئت بأخبار أكيدة من مدينة سبأ باليمن.قال تعالى (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً) بلقيس (تَمْلِكُهُمْ)تحكمهم (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ)أعطاها الله قوة وملكا عظيمين وسخّر لها أشياء كثيرة (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) وكرسي الحكم ضخم جدا ومرصّع بالجواهر (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ)وهم يعبدون الشمس (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)أضلهم الشيطان (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) يسجدون للشمس ويتركون الله سبحانه وتعالى (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)
وذكر العرش هنا لأنه ذكر عرش بلقيس من قبل، فحتى لا يغترّ إنسان بعرشها ذكر عرش الله سبحانه وتعالى.
فتعجب سليمان من كلام الهدهد، فلم يكن شائعا أن تحكم المرأة البلاد، وتعجب من أن قوما ليدهم كل شيء ويسجدون للشمس، وتعجب من عرشها العظيم، فلم يصدق الهدهد ولم يكذبه إنما !قال تعالى : (قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) وهذا منتهى العدل والحكمة.وهنا عزمَ نبي الله سليمان على أن يرسل إليها رسالة يدعوها من خلالها إلى الإيمان بالله تعالى وترك عبادة الشمس من دونه.ثم كتب كتابا وأعطاه للهدهد وقال له : (اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) ألق الكتاب عليهم وقف في مكان بعيد يحث تستطيع سماع ردهم على الكتاب.
طرحت الملكة على رؤساء قومها الرسالة، وكانت عاقلة تشاورهم في جميع الأمور:
قال تعالى : (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ)
كان رد فعل الملأ وهم رؤساء قومها التحدي.. أثارت الرسالة بلهجتها المتعالية المهذبة غرور القوم، وإحساسهم بالقوة. أدركوا أن هناك من يتحداهم ويلوح لهم بالحرب والهزيمة ويطالبهم بقبول شروطه قبل وقوع الحرب والهزيمة.
(قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ)
أراد رؤساء قومها أن يقولوا: نحن على استعداد للحرب، ويبدو أن الملكة كانت أكثر حكمة من رؤساء قومها، فإن رسالة سليمان أثارت تفكيرها أكثر مما استنفرتها للحرب.فكرت الملكة طويلا في رسالة سليمان، كان اسمه مجهولا لديها، لم تسمع به من قبل، وبالتالي كانت تجهل كل شيء عن قوته، ربما يكون قويا إلى الحد الذي يستطيع فيه غزو مملكتها وهزيمتها.
ونظرت الملكة حولها فرأت تقدم شعبها وثراءه، وخشيت على هذا الثراء والتقدم من الغزو.. ورجحت الحكمة في نفسها على التهور، وقررت أن تلجأ إلى اللين، وترسل إليه بهدية.وقدرت في نفسها أنه ربما يكون طامعا قد سمع عن ثراء المملكة، فحدثت نفسها بأن تهادنه وتشتري السلام منه بهدية.قدرت في نفسها أيضا إن إرسالها بهدية إليه، سيمكن رسلها الذين يحملون الهدية من دخول مملكته، وإذا سيكون رسلها عيونا في مملكته، يرجعون بأخبار قومه وجيشه، وفي ضوء هذه المعلومات، سيكون تقدير موقفها الحقيقي منه ممكنا
أخفت الملكة ما يدور في نفسها، وحدثت رؤساء قومها بأنها ترى استكشاف نيات الملك سليمان، عن طريق إرسال هدية إليه، انتصرت الملكة للرأي الذي يقضي بالانتظار والترقب.. وأقنعت رؤساء قومها بنبذ فكرة الحرب مؤقتا، لأن الملوك إذا دخلوا قرية انقلبت أوضاعها وصار رؤساءها هم أكثر من فيها تعرضا للهوان والذل .
واقتنع رؤساء قومها حين لوحت الملكة بما يتهددهم من أخطار.
قال تعالى (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)
وعندما وصلت الهدايا إلى سيدنا سليمان مع جنود ملكة سبأ رفضها وعزم على إرسال جيش جرار إليها لأنها لم تمثل لأمر الله ولم تدخل في دينه.وأدرك سليمان على الفور أن الملكة أرسلت رجالها ليعرفوا معلومات عن قوته لتقرر موقفها بشأنه. ونادى سليمان في المملكة كلها أن يحتشد الجيش، ودخل رسل بلقيس وسط غابة كثيفة مدججة بالسلاح، فوجئ رسل بلقيس بأن كل غناهم وثرائهم يبدو وسط بهاء مملكة سليمان، وصغرت هديتهم في أعينهم.
وفوجئوا بأن في الجيش أسودا ونمورا وطيورا، وأدركوا أنهم أمام جيش لا يقاوم .ثم قدموا لسليمان هدية الملكة بلقيس على استحياء شديد، وقالوا له نحن نرفض الخضوع لك، لكننا لا نريد القتال، وهذه الهدية علامة صلح بيننا ونتمنى أن تقبلها. نظر سليمان إلى هدية الملكة وأشاح ببصره.
(فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ)
كشف الملك سليمان بكلماته القصيرة عن رفضه لهديتهم، وأفهمهم أنه لا يقبل شراء رضاه بالمال. يستطيعون شراء رضاه بشيء آخر، (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)
ثم هددهم:
(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ )
(قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)
فعرش الملكة بلقيس هو أعجب ما في مملكتها، كان مصنوعا من الذهب والجواهر الكريمة، وكانت حجرة العرش وكرسي العرش آيتين في الصناعة، وكانت الحراسة لا تغفل عن العرش لحظة،وهنا:
(قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ كريم )
فقال أحد الجن أنا أستطيع إحضار العرش قبل أن ينتهي مجلس وكان عليه السلام يجلس من الفجر إلى الظهر وأنا قادر على حمله وأمين على جواهره.
( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ )
لكن شخص آخر يطلق عليه القرآن الكريم “الذي عنده علم الكتاب” قال لسليمان أنا أستطيع إحضار العرش في الوقت الذي تستغرقه العين في الرمشة الواحدة.
واختلف العلماء في “الذي عنده علم الكتاب” فمنهم من قال أنه وزيره او أحد علماء بني إسرائيل وكان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب. ومنهم من قال أنه جبريل عليه السلام.
لكن السياق القرآني ترك الاسم وحقيقة الكتاب غارقين في غموض كثيف مقصود، نحن أمام سر معجزة كبرى وقعت من واحد كان يجلس في مجلس سليمان، والأصل أن الله يظهر معجزاته فحسب، أما سر وقوع هذه المعجزات فلا يديره إلا الله.. وهكذا يورد السياق القرآني القصة لإيضاح قدرة سليمان الخارقة، وهي قدرة يؤكدها وجود هذا العالم في مجلسه.
أدركت بلقيس أن هذا هو عرشها، لقد سبقها إلى المجيء، وأنكرت فيه أجزاء وهي لم تزل تقطع الطريق لسليمان، أي قدرة يملكها هذا النبي الملك سليمان؟!
انبهرت بلقيس بما شاهدته من إيمان سليمان وصلاته لله، مثلما انبهرت بما رأته من تقدمه في الصناعات والفنون والعلوم، وأدهشها أكثر هذا الاتصال العميق بين إسلام سليمان وعلمه وحكمته:
انتهى الأمر واهتزت ورأت عقيدة قومها تتهاوى هنا أمام سليمان، وأدركت أن الشمس التي يعبدها قومها ليست غير مخلوق خلقه الله تعالى وسخره لعباده، وانكسفت الشمس للمرة الأولى في قلبها، أضاء القلب نور جديد لا يغرب مثلما تغرب الشمس .وقد أحسنت بلقيس اختيار الوقت الذي أعلنت فيه إسلامها.. قال تعالى:
(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
قيل لبلقيس ادخلي القصر، فلما نظرت لم تر الزجاج، ورأت المياه، وحسبت أنها ستخوض البحر، (وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا) حتى لا يبتل رداؤها.
نبهها سليمان دون أن ينظر ألا تخاف على ثيابها من البلل، ليست هناك مياه ، (إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ) إنه زجاج ناعم لا يظهر من فرط نعومته.لإعلان إسلامها، اعترفت بظلمها لنفسها وأسلمت وتابعها قومها على الإسلام.
أدركت أنها تواجه أعظم ملوك الأرض، وأحد أنبياء الله الكرام.ويقول المفسرون أنها تزوجت سليمان بعد ذلك، إلا أنه لم يثبت شيء يؤكد هذا الزواجويقال أنها تزوجت أحد رجاله، أحبته وتزوجته، وثبت أن بعض ملوك الحبشة من نسل هذا الزواج.وتُوفِّيت بلقيس بعد قتل ولدها رحبعم بن سليمان بأنطاكية بسنةٍ واحدة، وقد رثاها النعمان بن الأسود ابن المعترف بن عمرو بن يعفر الحميري بقوله:
أَخْرَجَ الْمَوْتُ مِنْ ذرَى قَصْرِ بَيْنُو *** نَ هُمَامًا عَلَى الْجَمَادِ يَدُورُ
والقصيدة طويلة، ذكرها الهمداني إلى أن قال:
كُلُّ عُمْرٍ وَإِنْ تَطَاوَلَ دَهْرًا *** بَعْدَهُ الْمَوْتُ ذَاكَ عُمْرٌ قَصِيرُ