قصة ديك الجن
يُحكى أن ديك الجن كان شاعرا مرهف الحس، فقد أعتبر من شعراء الواحدة ، والذين صنفوا بأنهم اشتهروا بسبب قصيدة واحدة ، واسمه الحقيقي هو عبد السلام بن رغبان الحمصي ، وسمي بديك الجن ، كما أشيع أنه كان يحب الخروج وقضاء الوقت في البساتين .
لُقب بديك الجن نسبة لدويبة تعيش عادة في البساتين، كما أشيع أنه سمى بذلك لان لون عينيه أخضر، وقيل لأنه كان مدمن لشرب الخمر .
يُروى أن خرج ذات يوم ديك مع صديقه ليجلسوا في البساتين فدخلوا أحدى البساتين الخاصة بالأديرة النصرانية، ووجدوا مجموعة من الفتيات الجميلات يحتفلن بمناسبة دينية ، ويرددن شعره أي شعر ديك الجن والتي تقول :
عساكِ بحق عيساكِ مريحة في قلبيَ الشاكي
فإن الحسن قد أولاكِ إحيائي وإهلاكـــي
وأولــعني بصلبــانٍ ورهبـــان ونسَّــــاكِ
ولــم آت الكنـــائس عن
هـــوى فيــهن لـــــولاك
فجلس ديك الجن يتابع إحدى الفتيات الجميلات وهى تغني، حتى قام أحدهما بإصدار صوت بدون قصد، فانتبهت الصبايا لهم فقامت الجميلة بتهديدهم بأن تبلغ أهل الدير باقتحامهم البستان !!
فسألها ديك الجن : أتعلمين لمن تلك القصيدة ؟
فقالت له : نعم أنه لديك الجن .
فقال لها : وإن أخبرتك أنني ديك الجن فماذا تقولين !!
فقالت له : أثبت ذلك لي إذا كنت ديك الجن !
فقال لها : وكيف أثبت لك ِ أني هو !
فقالت له : بأن ترتجل أبياتا من شعرك الآن .
فوافق ديك الجن وقام بإنشاد قصيدته الشهيرة :
قولــي لطيــفـك يـــنثنـي
عن مضجعي وقت المنام
كي استريـح وتنطفـي
نار تؤجج فـي العظـام
دنـف تقلبـه الأكــف
على فراش من سقـام
أما أنـا فكمـا علمـتِ
فهل لوصلك من دوام ؟
فقالت له الفتاة الجميلة : أنه يمكن للكثيرين فعل ذلك إذا كان يحفظون الأبيات ، ولكن يمكنك أثبات أنك ديك الجن عن طريق إنشاد الأبيات نفسها مع تغير القافية فقط بحيث تبقي على المعنى ، فقام ديك الجن بالإنشاد ثانية:
قولــي لطيفـك يـنثنـي
عن مضجعي وقت الرقاد
كـي استريــح وتنطفـي
نــار تـؤجج فـي الفـــؤاد
دنـف تقلبـــه الأكــف
على فـراش مـــن قتـــاد
أما أنـا فكمـا علمــتِ
فهل لوصلك من معاد ؟
فلم تقتنع الفتاة الجميلة وطلبت منه إنشاد المزيد ،فأنشد ديك الجن وقال :
قولـي لطيفــك ينثـنـي
عن مضجعي وقت الهجوع
كــي استريــح وتنطفــي
نار تؤجج فـي الضلـوع
دنــف تقلبــه الأكـف
على فراش مـن دمـوع
أمـا أنـا فكمـا علمـتِ
فهل لوصلك من رجوع ؟
فلم تقتنع الفتاة مرة أخرى ،وطلبت المزيد فزاد :
قولي لطيفــك ينثـني
عن مضجعي وقت الوسن
كي أستريـح وتنطفـي
نـار تأجـج في البــدن
دنــف تقلبــه الأكــــف
على فـراش مـن شجـن
أمـا أنـا فكمـا علـمت
فهل لوصلك من ثمن ؟
حينها تعلق قلب الفتاة هي الأخرى بديك الجن وأحبته كثيراً .وبعد فترة من الزمن عرف الجميع قصة حبهما ، وأصبحت مثل لأهل المدينة ، ثم تزوجا وعاشا معاً حياة جميلة ، وكانت هذه الفتاة تدعى ورود بنت الناعمة ، وكانت نصرانية وأسلمت بعد زوجها من ديك الجن بناء على طلبه.
وكان لديك الجن صديق مخلص يدعى بكر، كان يثق به ثقة عمياء ، وكان أيضا لديك الجن ابن عم يدعى أبو الطيب ، والذي حاول كثيرا مراودة ورود عن نفسها ، ولكنها كانت تصده بشدة ، ولكنها لم تخبر ديك الجن عن محاولات ابن عمه خوفا عليه .فقام أبو الطيب ذات مرة بترتيب مؤامرة من أجل الانتقام منها ، وكان ذلك عن طريق أن قام بطلب دين كان على ديك الجن ، فأجبه ديك الجن بأنه ليس معه الأموال الكافية ، فطلب منه ابن عمه الرحيل مع قافلة إلى مدينة أخرى من أجل تدبير المبلغ من أمير هناك على صداقة قوية بديك الجن .
فذهب ديك الجن بالفعل ،وأثناء رجوعه ثانية ، ذهب ابن عمه إلى ورود يخبرها أنه قُتل وهو يتظاهر بالحزن عليه، وطلب من صديق ديك الجن بكر أن يذهب إلى الجميلة ورود زوجة ديك الجن ليهدئها ويخفف من حزنها !!
وهنا ذهب ابن عمه إليه يخبره أن صديقه وزوجته ورد لم يصونا غيبته، فعاد إلى لبيته مسرعاً ليجدهما يبكيا، فسحب سيفه وقام بقتلهما معاً !
وحين أفاق من غضبه جلس يبكي على حبيبته ، فقال واحدة من أروع قصائده:
رَوَّيتُ مِن دَمِهَا الْثََّرَى وَلَطَالِمـا
رَوِّى الْهَوَى شَفَتَيَّ مِن شَفَتَيْهـا
قَد بَات سَيْفِي فِي مَجَال وِشَاحِهَا
وَمَدَامِعي تَجْرِي عَلـى خَدَّيْهـا
فَوَحَق نَعْلَيْهَا وَمَا وطئ الْحَصَى
شَيْءٌ اعَزُ عَلـيَّ مـن نَعْلَيْهـا
مَا كَان قَتْلِيّها لِأَنـي لـم اكـن
أَبْكِي إِذَا سَقـط الذَّبـابُ عَلَيْهـا
لَكِن ضَنَنْت عَلَى الْعُيُون بِحُسْنِهَا
وَأَنِفْت مِن نَظَر الْحَسُود إِلَيْهـا
وبعد فترة توفى ابن عمه ، فاعترف له اثنان كانا معه أثناء احتضاره أن زوجته ورود كانت طاهرة ، هي وصديقة بكر ، فقضى بقية حياته حزينا يذهب إلى قبرها وينشد :
قمرٌ أنا استخرجته من دجنـة
لبليتي وزففتـُهُ مـن خِـدْرِهِ
فقتلتـهُ ولـهُ علـيَّ كرامـة
مِلءَ الحشا وله الفؤادُ بأسـرهِ
عهدي به مَيْتاً كأحسـن نائـمٍ
والحزنُ ينحرُ مقلتي في نحرِهِ
لو كان يدري الميْتُ ماذا بعدهُ
بالحيّ حلَّ بكى لهُ في قبـرِهِ
غُصَصٌ تكادُ تفيضُ منها نفسهُ
وتكادُ تُخرجُ قلبَهُ من صـدرِهِ
بانوا فصار الجسم من بعدهم
ما تصنع الشمس لـه فيّـا
بــأي وجــهٍ أتلقـاهـمُ
إذا رأونـي بعدهـم حيّـا ..