جاء شهر رمضان المبارك، فعمت الفرحة قلوب المسلمين، وبانت ملامِحه في بيوتهم ومحلاتهم وشوارعهم، وراح النَّاس يتقرَّبون إلى الله بالأعمال الصالحة، من ذِكْر ودعاء، وصدَقة وصلاة رغبةً في اغتنام كل لحظة من هذا الشهر في طاعة الله، لِنَيل رضاه، والفوز بالجنَّة ذات النِّعَم الجزيلة.
وككل بيتٍ مسلم، كان بيت سليمان غامرًا بالسعادة والسرور، فقد اعتادَ مع زوجته وأبنائه على قَضاء شهر رمضان في جو خاص يعمه الحب والتعاون، يهدون لجيرانهم مِما أعدوه لإفطارهم، ويَدْعون أقاربهم للإفطار في بيتهم، فيكرمونهم بما لذ وطاب، أملاً في الحصول على أَجْر تفطير الصائمين، ويتصدقون على الفقراء والمحتاجين، ويجلسون مجتَمِعين لفترات زمنية أطول من المعتاد، يَقْرؤون فيها القرآن، أو يتَدارسون سيرة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم ويتَذاكرون التاريخ، ويتعلمون أشياء جديدة عن الصوم والصلاة .
وفي ليلة من ليالي العشر الأواخر من رمضان، عاد الأب سليمان كعادته من صلاة التراويح، وما أن دخَل البيت حتى توجه إلى غرفة الجلوس، حيث كان ينتظره زوجتُه وأبناؤه، ألقى عليهم السَّلامَ، وجلس بينهم، ناولَتْه زوجته المصحف، فراح يُرتل القرآن وهم صامتون ومُنصِتون في خشوع، ثم رفعَ يديه، وأخذ يدعو له ولأولاده وللمسلمين، بالرَّحمة والمغفرة، والصحَّة والعافية، وهم حوله يردِّدون وراء أُمِّهم قائلين : آمينَ، آمين.
بعدها أخذوا يشربون عصير البرتقال البارد المنعِش، ويأكلون من الحلوى الشهية اللذيذة، ويتَبادلون أطراف الحديث.
قالت شيماء : يا أبِي، لقد وعدتَني أن تسمح لي بالصوم يوم السابع والعشرين، وقد انتظرتُ ذلك كثيرًا.
الأب: نعَم يا صغيرتي، سأسمح لك بالصَّوم بشرط أن تُفْطري إذا شعرت بالجوع الشديد، أو العطش، أو التَّعب، وأنت يا ولدي ياسر ألاَ تريد الصوم مع أختك شيماء، فأنت أكبَر منها ؟
قطب ياسر جبينه ونظرَ إلى الأرض صامتًا، ثم قال : لا أعلم فقد حاولتُ العامَ الماضي، ولَم أستَطع صوم اليوم كاملاً.
قالت الأم : حاوِل من جديدٍ يا بني، فأخوك عمار قد صام في مثل سنك، واستطاع أن يتعود.
فقال عمار الأخ الأكبر : أجل يا ياسر، لقد صُمت في التاسعة من عمري، وقد كان ذلك صعبًا جدًّا عليَّ، ولكن أبي وأمي شجعاني، ووعَداني بجائزة، فكنتُ كلما أحسست بالجوع والعطش، أتذكر الجائزة، وأفكر في نوعها وماذا ستكون إلى أن ينتهى اليوم.
وأنا الآن أفعلُ نفس الشيء، إنني أتذكر دائمًا الجائزةَ التي سأحصلُ عليها من الله بعد كلِّ يومٍ من الصبر والتحمل.
فقال ياسر : وهل ستحضر لنا الجوائزَ إنْ صُمنا يا أبي ؟قال الأب: نعم، سأحضر لكما جائزتين جميلتين بإذن الله.
أمرَت الأم كلاًّ من شيماء وابنها ياسر بالتوجه إلى سريرهما ليناما حتى يتمكنا من القيام وقت السحَر، فراحا يتسابقان وهما يضحكان .
في وقت السحَر، قامت شيماء بمجرد أن نادَتها أمها، بينما لم يستيقظ ياسر إلا بعد جهدٍ كبير من أمه.
في الصباح أيضًا، قامت شيماء سعيدةً تلعب، تَضْحك، تساعد أمَّها في أشغال البيت، أما ياسر فقد تأخر في النوم إلى حدود الساعة العاشرة، وقام متكاسلاً، ولا يكاد أحد من الأسرة يطلب منه طلبًا إلا ويسارع بالقول : أنا اليوم صائم فلا يكلمني أحد .
وفي المساء، سألَت الأمّ ياسرًا وشيماء عما يَرغبان في تناوله أثناءَ الإفطار، فطلبَتْ شيماء قالبَ حلوى بالشكولاتة، أما ياسر، فطلب من أبيه أن يشتري لهم الكعك الذي يحبه كثيرًا، فأعطاه الأبُ النقود، وأمره أن يتجه إلى أقرب دكان للحلويات، ويشتري كيلو غرامًا من الكعك.
ذهب ياسر إلى دكان الحلويات، وأخذ ينظر إلى أنواع الحلويات الشهية المعروضة هناك، ويتمنى لو يتذوقها، ثم اشترى الكعك، ودار عائدًا إلى البيت، وبينما كان يمشي كان يفتح كيسَ الكعك من الحين إلى الآخَر، وينظر إلى الكعك في لونه الذهبي، ويشَم رائحته، ثم يغلق الكيس، إلى أن خطرَتْ على باله فكرة، إذْ قال لنفسه : لماذا لا أتذوق من هذا الكعك، وأكمل الصوم فلا أحد يراني؟
فتح الكيس وأخذ كعكة، وبدأ يأكلها، وهو يقول : سآكل واحدة فقط، إي، إنه شهي كما أحبه تمامًا.أنْهَى الكعكة، وراح يمشي وهو يتمتم : لقد أكلتُ واحدة، فماذا يضر لو أكلت واحدةً أخرى؟
ومدَّ يده وأخرج كعكةً أخرى من الكيس، والْتهمَها، وما أن أكملها حتى أخرج الثالثة، وراح يأكلها، وقبل أن ينتهي منها، شعر بالغثيان، وكاد أن يتقيَّأ، فجلس على الرَّصيف.
عاد إلى البيت بصعوبة، وما أنْ دخل حتى قال لأمه: لقد قُلت لكم لا أستطيع الصوم، ها أنا أشعر بالغثيان والألَمِ في معدتي، أنا ذاهب إلى النوم.
ابتسمت الأم وقالت له: لا عليك يا بني، لقد اقترب موعدُ الإفطار.
توجه ياسر إلى سريره، وألقى بجسمِه عليه وهو يشعر بالألم في معدته، والقلق والاضطراب في نفسه، وبدأ يشعر بالنَّدم وتأنيبِ الضمير على أكله للكعكات وهو صائم.
قبيل أذان المغرب، كانت الأم تعد مائدة الإفطار، وحين كانت تضع الكعك، انتبهَتْ إلى أمر، وهو أنه ناقص، وقد كانت عادةً تكون في الكيلوغرام تسعة كعكات، غير أنها لم تجد إلا ستة منها، فنادت ياسرًا، وسألَته قائلة : هل اشتريت كيلو غرامًا من الكعك يا ياسر؟
اضطرب ياسر واحمر وجهه، وأجاب بِتَلعثم : نعم، هذا ما أعطاني البائع.
انتبهت الأم إلى اضطراب ياسر، وتذكرَت شعوره بالغثيان والألم في معدته، فشكت في صيامه، وقلقت من أجْلِه، أدارت رأسها إليه وقالت : شكرًا يا بني، نادِ إخوتك، وتعال؛ فإنه سيُؤذن بعد لحظات.
اجتمعت الأسرة حول طاولة الطعام، وما هي إلا لحظات من الزَّمن حتى أذَّن أذان المغرب قائلاً : الله أكبر.
قال الأب والأمِّ : بسم الله.ورددها الأولادُ خلفهما، وبصوتٍ جماعي شجي: بسم الله.
وامتدت الأيادي إلى التمر والحليب، غير أن ياسرًا وقف ومد يديه في لهفةٍ إلى كوب الماء، وأخذ يشرب، غير أن أمه أمسكت بيديه وأوقفَتْه عن الشرب، قائلةً: لا، لا يا ياسر، سيضرك شربُ الماء الآن، وبهذه الطريقة، فجلس وأخذ يأكل مما يأكلون.
صلَّوا صلاة المغرب جماعة، ثم عادوا إلى المائدة بينما تأخر الأب، ثم لحق بهم يحمل بين يديه هدايا ذات أغلفة براقة، فتجري شيماء وهي تقول : أريد هديتي يا أبي، ما هي الهدية؟ هل هي جميلة؟
بينما لم يتحرك ياسر من مكانه حيث يتكِئ، نظرَتْ أمه إليه وقد كانت تُراقبه، وقالت: ألاَ تريد هديتك أنت أيضًا يا ياسر؟
اعتدل جالسًا، وقال لها : لا أدري، إنِّي متعب، لا أشعر باللَّهفة مثل شيماء لمعرفة الهدية؟ كيفما كانت، فهي جميلة.
أعطى الأبُ لـشيماء هديتَها، وراحت تفتحُها، ثم قدَّم لـياسر هديته، ولـعمار أيضًا هدية، فابتسمَ عمَّار وقال : شكرًا يا أبي، ظننتُ أنَّ الهدايا لياسر وشيماء فقط.
قال له أبوه: أنت أيضًا تستحقُّ الهدية؛ لأنك تصوم رمضان، وتصلي وتفعل كل خير وجميل.
فتحَ الأولاد الهدايا في جو من البهجة والسرور، وتناولوا إفطارهم، غير أن الأم كانت تراقب ياسرًا كل الوقت، وما أنْ ذهب لينام حتى تبِعَتْه، جلسَتْ على سريره، ووضعَتْ رأسه في حجرها، وقالت له: ما لي أراك متوترًا غير مسرور؟ هل تعاني من مشكلة ما؟
قال لها: لا، لا أعاني من شيءٍ سوى التعب، بسبب الصوم.قالت: ولكنَّني وجدت الكعك ناقصًا يا بُنَي، هل نسيتَ أنك صائم فأكلتَ منه؟
فاعتدل ياسر جالسًا، ونظر إليها، واغرورقت عيناه بالدموع، ثم قال لها : لقد كنت جائعًا، وأغراني الكعك برائحته الشهية، فأكلتُ منه، وقد ندمت كثيرًا، وأنا الآن أشعر بالألم، لأنَّ أختي شيماء أحسن مني، وأنني لا أستحق الهدية.
مدت الأم يدَها، وراحت تمسح دموعه التي بدأت تَنزل على خديْه، وهي تقول له : كان عليك أن تُقاوم رغبتك في أكل الكعك، لأنك صائم يا بني، فنحن نصوم شهرًا كاملاً، لنتعلم كيف نتحكم في أنفسنا أمامَ ما نشتهي، أرأيتَ كيف كانت نتيجة الضعف أمام أيِّ شيء تطلبه النَّفس، ولو كان ممنوعًا ؟ لقد بدَت شيماء سعيدة ومسرورة، لأنها حقَّقت نجاحًا في الصوم، بينما كنتَ أنت حزينًا وخائفًا ونادمًا، لأنك فشِلْتَ في امتحان الصَّبر.
رمى ياسر بجسده على أمه، وراح يتوسل إليها ألا تخبر أباه وأخوَيه بما فعله، وهي تقول له: ولكن الله رآك يا ياسر، وذلك هو المهم؛ لأنه يرانا دائمًا، وفي أي مكان، وهو الذي يُحاسبنا على أفعالنا، فصاحِبُ الأعمال الحسنة يجازيه بالحسنات مثل شيماء، وصاحب الأفعال السيئة يجازيه بالسيئات.
صمت ياسر برهة، ثم قال بصوت منخفض : أنا نادم، ولن أُعيدها مرة أخرى، سأصوم بإذن الله وأتمالك نفسي أمام الطعام.
ضمته الأم إلى صدرها، وقالت له : وأنا أعدك يابني بألا أخبر أحدآ بما جرى مادمت نادما ولن تعيدها، وسأدعو الله أن يساعدك على النجاح ويوفقك .