قصة زوجة أبي
منذ وفاة والدتي استحالت الحياة وتحولت إلى عذاب مقيم فنحن أطفال صغار ،و حصلنا على لقب يتامى و صرنا محل الشفقة و الامتهان أيضاً .غابت شمس تلك الأيام الجميلة برحيلها ،فمنذ أن رحلت أمي رحل معاها كل شيء ،من الطعام الشهي في وقته و الثياب النظيفة و الحضن الحنون الذي يحتوينا في ظلمات الليالي و يأوينا من عذابات الحياة و يدافع عنا بلا ثمن أو منفعة .
حضرت عمتي بعد ذلك للعناية بنا ،لكن سرعان ما كشفت عن وجهها الحقيقي ،حتى لعب أخوتي لا تتحمله فالصراخ في كل مكان لا نجرؤ على فعل شيء في وجودها .كانت مثل الجلاد الذي لا يعرف الرحمة ،أصبحنا ننام كالدجاج ولا نفضل الاستيقاظ باكراً لتجنب صراخها علينا .و بعد شهور قليلة أتت تلك المرأة ذات الشكل الجميل الوسامة واضحة بصحبة أبي ليبلغنا بأنها زوجته الجديدة و أمنا الجديدة أيضاً دون أخد رأينا حتى.
وهذا ما رفضناه و أبت قلوبنا أن تقبل به ،و بابتسامة غامضة ارتسمت على طرف ثغرها جالت ببصرها في أشقائي و شقيقاتي الصغار ثم توقفت لتنظر في وجهي مباشرة و أتسعت ابتسامتها لتربت على رأسي الصغير الذي حركته وأنا معترضاً و بنظرات متحدية بادلتها إياها.وحتى نتجنب غضب والدي صافحناها بكل أدب و خوف، موقنين بأن ما ينتظرنا هو أشد مما فات علينا، و بالفعل انقلبت الأمور رأساً على عقب بعد ذلك .
كان الحكم في البيت لعمتي ،فنحن لم نحتك بزوجة أبي،تبدو وكأنها غير موجودة ،أغلب الأحيان كانت تخرج من المنزل دون سبب .
ازدادت حياتنا مهانة و صراخ و استبعادنا في شؤون البيت ،عدا عن الضرب المبرح أحياناً حتى جاءت اللحظة التي لم نحلم بها أبداً ، عندما سمعنا ذلك الصوت القوي الحازم .
يقول تلك الكلمة السحرية : كفى ،اتقي الله في هؤلاء الأطفال الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم أيتام .تراجعت تلك المرأة القاسية المسماة بعمتي أمام سيل الكلمات النارية غير مصدقة بأن هناك من أوقفها أخيراً .
كانت في ذهول محاولة الرد بأقسى الكلمات المبتذلة كعادتها لكن دخول أبي منعها من ذلك فالتفتت له بوجه محتقن ،لتقول بصوتها الخشن القاسي لأبي :هل يعجبك ما تقوله زوجتك الجديدة ،تصرخ في وجهي لأنني أقوم بتربية أطفالك و العناية بهم منذ وفاة والدتهم .قاطعتها زوجة أبي في غضب وغيظ و هي تواجه أبي قائلة بصرامة : أي عناية تلك في إذلال هؤلاء الأطفال اليتامى ، إن شقيقتك هذه لا يعرف قلبها الرحمة و الخوف من الله عز وجل فأنا مللت السكوت على هذا الوضع .أشار أبي لزوجته الجديدة بيده لتصمت ثم قال لشقيقته بهدوء :أعتذر منك يا شقيقتي عما حدث .التقط أبي أنفاسه قليلاً ثم تابع بنفس الهدوء :و أعلم أنني أتعبتك معي في العناية بأطفالي اليتامى، و بما أنني قد تزوجت فأظن أن من حقك أن تستريحي و تعودي لبيتك الذي يحتاجك بشدة .
نظرت عمتي بغيظ و قد تلون وجهها بحمرة الغضب و بدا أنها سترد على أبي بشيء ما، لكنها تناولت حقيبتها و غطاء رأسها و خرجت من المنزل بسرعة لتغلق الباب وراءها بعنف .
تنفست زوجة أبي الصعداء و نحن غير مصدقين، و توجه أبي ليستريح قليلاً بعدما مسح رؤوسنا و أطمئن علينا.كنا خائفين جداً ،يبدوا أن مطلب زوجة أبي كان إبعاد عمتي حتى تسيطر هي على البيت ،دخلنا لغرفتنا ونحن في أسوأ حالاتنا ،حاولت التخفيف عن إخوتي فأنا أكبرهم رغم صغر سني .
لكن زوجة أبي لم تلحق بأبي بل طرقت بابنا و هي تنظر لنا نظرة خاوية ما لبث أن أحمر وجهها و حاولت أن تقول شيئاً لكن صوتها خرج مختنقاً لتنهمر عيناها بالدموع و هي تهجم علينا و تحضننا بكل قوة و حنان و تقبلنا بكل لهفة كأن والدتنا الحبيبة بعثت من جديد ،أو هذا ما أحسست به أنا وإخوتي .تغيرت حياتنا بالفعل ،و بعد شهور طويلة أنجبت زوجة أبي شقيقاً جديداً لنا ليتلوه أشقاء آخرين ،وبالطبع اختلفت المعاملة في كل شيء، كانت تعاملنا بحنان أكثر من ذي قبل، كانت تريد أن تزرع المحبة و الأخوة بيننا جميعاً لدرجة أن شقيقي من أبي جاءها يوماً يشكوني لأنني ضربته فأسكتته ثم سألتني عن السبب فأخبرتها بأنني وجدته يلعب في الطريق غير أبه بالعربات المنطلقة في كل لحظة .فابتسمت و قالت لابنها : يجب عليك أن تطيع شقيقك الأكبر دائماً .مضت الأيام و السنين و كبرنا و تزوجنا جميعاً و تفرقت بنا المدن و المسافات .وبعد وفاة أبي رحمه الله كدنا نخاصم بعضنا فيمن تقيم عنده زوجة أبي ، و كنت أكثرهم اصراراً بما أنني أكبرهم على أن تقيم عندي و أمام نظرات أبنائها و بناتها الأحق مني بذلك .حولت نظري إليها لأقول بكل حنان غير منتبه لدموعي التي تنهمر بغزارة : لكني لن أسمح بأن تفارقيني أبداً .و لم أدري وقتها كيف احتضنتها كطفل صغير و سالت دموعي على يديها .فكيف أستطيع العيش لحظة دون أن أراها في صباحي و مسائي .و كيف تطيب الحياة بدونها ،كيف نرد جميلها علينا لأن أمي لم تغب سوى تلك الأشهر التي بقت فيها عمتي معنا .
فقالت لهم أن بإمكانهم أن يستضيفوها بين كل حين و أخر لكنها ستبقي معي حتى يحين الآجل ،هذه كانت رغبتها لأنها كانت تعتبرني كبير العائلة .وأنا كنت أعتبرها أمي ..نعم أمي ..