قصة الجدة الحكيمة
عشت وأنا صغيرة لفترة مع جدتي، تلك العجوز التي لم تنل قسطا كافيا من التعليم، لكن رزقها الله عوضاً عن ذلك حكمة فطرية عجيبة وإيماناً عميقاً .كانت تمر بالبيت أحيانا ظروف اقتصادية صعبة مثلما يحدث في كثير من بيوت البشر لأي سبب مثل، لا يستطيع خالي إرسال مال لها باستمرار.ولا أدري كيف كانت تدبر أمر البيت إلى أن تمر تلك الأزمة بسلام.
لكن في يوم من ذات الأيام كان يوماً لا أنساه أبداً …مرت جدتي بأزمة مفاجئة لم تكن في الحسبان، حيث نزلت للسوق لتشتري بعض الحاجيات فضاع منها كيس نقودها أو سرقه أحدهم لا نعلم .فعادت للبيت ودخلت فوراً وهي شاردة نحو خزانة الملابس لتخرج أخر ما تبقى من نقود ولا أنساها حين تسمرت وهي تنظر للخمسة دنانير الباقية في البيت كله.وأمسكت بها لدقيقة كاملة تنظر إليها وكأن نهر من الأفكار والحسابات المعقدة يمر بعقلهاوظهرت لأول مرة في عيني المرأة القوية دموع الحيرة والعجز .ثم كأنها قررت حلاً مفاجئاً، فالتفتت إلي بحماسة وتصميم تطلب مني أن أساعدها فيما ستفعله. لكن ما طلبته كاد يصيبني بالجنون.طلبت مني أن أنزل لشراء عشر بيضات وربع كيلو عدس.. فظننت أنها ستطبخه لنا، ولكن ..!!
أخذت تطبخ العدس في استغراق وإتقان، وتصاعدت رائحته الجميلة لتغمر أرجاء البيت، وسلقت البيض، وسخنت بعض أرغفة الخبز، ووضعت بعض الملح والفلفل في ورقة صغيرة، ثم أخذت كل هذا، ونزلت إلى الشارع، وأعطته لبعض الفقراء في الحي.
كدت أجن، فقد نفذ ما عندنا من مال، وكدت أصرخ فيها : على الأقل كنت أعطني بيضة منهم يا جدتي .ولكن وكأنها قرأت ذلك في عيني المذهولة، فقالت في إيجاز وثقة كلمتين فقط :(اصبري، وانتظري)عدنا للبيت قبيل العصر، ولم يكن أمامنا إلا أن ننام لبعض الوقت.لكننا استيقظنا على صوت طرق مزعج لباب البيت، فإذا بولد ممن يبيعون في السوق يسألها :كيس الفلوس هذا أهو لكِ يا جدتي ؟؟كان سقط منها أمام محله، ولما حاول اللحاق بها تاهت منه في زحمة السوق، ولأنه أمين فقد سأل الباعة حوله بعد نهاية السوق عمن يعرف بيت السيدة التي مواصفاتها كذا وكذا والتي تأتينا كل أسبوع فأرشدته إحدى البائعات لبيتنا .ولم تمض ساعة، حتى ارتفع صوت طارق آخر .فإذا بصديق لخالي عاد من سفر ليعطينا دين عليه لخالي اقترضه قبل السفر مع هدايا وحلويات .
يومها قالت جدتي :يا ابنتي.. اللقمة تزيح النقمة.. كل ما تضيق بكِ .. أطعمي فقير أو سائل أو يتيم .. فهذه هي الثمرة التي جنيناها .
قلت لها ضاحكة : حسناً ولكن ليتنا طبخنا شيء أخر غير العدس .قالت: العدس ذكر في القرآن الكريم، وأنا أحبه كثيراً لهذا أطعم ما أحب يا عزيزتي .قدمي للناس من اللقمة اللي تحبيها.. فالله سيحلي زادكِ ويفك كربكِكبرت فيما بعد وعرفت التأصيل الشرعي لثقافة جدتي وعرفت الحديث القدسي :
(انفق يا ابن آدم أنفق عليك)
وتعلمت قول الله تعالى :(وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين)
لم تكن جدتي تحفظ هذه النصوص، لكن هذا اليقين يسري في كيانها كله.
كانت في أيام الشتاء الباردة تسلق البيض وتوزعه على عساكر المارة من الناس الفقراء والمحتاجين .كبرت وقرأت الكثير عن فضائل الإنفاق في سبيل الله وآثاره على العبد في الدنيا والآخرة.فاستقبلتها في يقين من عاين كل هذا بعينيه ، ورأى كيف يستر الله أسرة بسيطة كبيرة العدد قليلة الرزق عبر سنوات ويعبر بهم نهر الحياة في بساطة وبركة ويسر.
تعلمت أن التعامل مع الله تجارة رابحة، وأن من تعامل مع الله عرف كرمه ولطفه ورحمته ،فقط تعامل معه بيقين .