قصة ليلة القدر
في يوم من الأيام ، غربت الشمس عن الدنيا ، وحلّ الظلام وتناثرت النجوم في السماء ولم يظهر القمر ، لأني ليلة من الليالي الأخيرة للشهر العربي رمضان ، واستقبلني الناس في مكة مثل أي ليلة ، فسهر البعض يسمر ويلهو ونام البعض إلى أن يطلع النهار .
والحقيقة أن الدنيا منذ خلقت كانت تنتظرني ، لأني ليلة لي قدري ولي ذكرى ولي أثري ! ولأني ليلة كلها نور .. وهو ليس نورًا من الشمس ولا من القمر ولا من الكهرباء .. وإنما هو نور الله ، أضاء الأرض وأضاء السماء ، وبفضل هذا النور وبسبب ما حدث بعده ، أصبحت خيرًا من ألف شهر ، خير من أكثر من ثلاث وثمانين سنة !
أنا ليلة القدر ، جئت في شهر رمضان ، سنة 610 ميلادية ، أي قبل أن يبدأ التاريخ العربي الهجري بنحو ثلاثة عشر عامًا ، وكان خارج مكّة غار يسمى غار حراء. كان محمد ابن عبدالله يذهب إليه كثيرًا ، ويقيم فيه طويلاً ، يناجي ربّه ويصلي له ويعبده وحده ، بينما كان أهل قريش يعبدون الأصنام .
وعندما جئت ، كان محمد صلّ الله عليه وسلم قد بلغ الأربعين من عمره ، وكان في الغار يتعبد ويتهجد ، ويدعو ربه ويناجيه ويناديه ويقول له ما معناه : يا رب هذا الكون ، يا خالق هذه السموات ، يا خالق الشمس والقمر والنجوم ، يا خالق هذه الأرض ، وهذه الجبال ، يا ربي يا خالقي ، وخالق الكائنات .. أريد وجهك .. أريد وجهك ..!.
وبينما هو يردد هذا الدعاء ، ويكرر هذا النداء ، تمتلئ الدنيا بالنور ، نور في الأرض ونور في السماء ، وينزل ملاك السماء بأعظم كلمات سمعتها في الدنيا ، ويقول هذا الملاك ، الذي هو جبريل عليه السلام .. يقول لمحمد : اقرأ .. فيرد عليه الصلاة والسلام ، ما أنا بقارئ ، فلم يكن الرسول يعرف القراءة والكتابة ، فيتقدم منه جبريل عليه السلام ، ويضمه إلى صدره ثلاث مرات ، وفي كل مرة يقول له : اقرأ .
ويرد محمد في كل مرة : ما أنا بقارئ ، ثم أخذ جبريل يتلو على محمد ، ومحمد يردد من بعده : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ).
وانصرف جبريل ، وشعر محمد بالخوف ، وأسرع إلى بيته ، ودخل إلى زوجته خديجة ، وكان يرتعش وعلى جبينه حبات عرق ، فأسرعت به إلى الفراش ووضعت فوقه الغطاء ، وعندما بدأ محمد صلى الله عليه وسلم يدفأ ويهدأ ، حكى لزوجته ما حدث ، وذكر لها كيف غمره النور رغم الظلام في غار حراء ، وروى لها كيف جاء جبريل وطلب منه أن يقرأ ، وبماذا رد عليه في الأول ، ثم كيف ردّد وراءه ما كان يتلوه عليه ، وتلاه مرة أخرى عليها .
حاولت السيدة خديجة أن تطمئن الرسول عليه الصلاة والسلام ، فقالت له : إن الله معك ، فأنت إنسان طيب كريم ، تحب أهلك ولا تكذب على أحد ، وتساعد كل الناس ، وتعطى الحق لصاحبه ، إنك كريم الأخلاق صادق أمين .ورغبت السيدة خديجة أن تطمئن أكثر ، فصحبت الرسول إلى ابن عمها ، ورقة بن نوفل ، وكان شيخًا عاقلاً حكيمًا ، قرأ كتبًا كثيرة وصاحب أهل الإنجيل والتوراة ، وعرف كثيرًا من أمور الدين ، ولذلك كره الأصنام ولم يعد يعبدها .
سمع ورقة بن نوفل ، من سيدنا محمد ما حدث في غار حراء ، فقام من مكانه ، واحتضن سيدنا محمد وهو يقول له : إن هذا وحي نزل إليك ، أنت نبي ، نبي أمة العرب ، بل نبي الدنيا كلها ، إنك مثل (موسى وعيسى) اختارك الله وأرسلك لتهدي الناس إلى الخير والحب والرحمة ، والناس لن يصدقوك في أوّل الأمر .. وسوف يخرجونك من بلدك ، ولكنك في النهاية سوف تنتصر عليهم ، بعد أن تقاتلهم وتحاربهم .. كم أتمني أن يطول بي العمر ، فأعيش حتى أدافع عنك وعن رسالتك .
هدأ سيدنا محمد صلّ الله عليه وسلم تمامًا ، وارتاح إلى كلام ورقة بن نوفل ، وتمنى أن تأتي ليالي كثيرة مثلي ، يسمع فيها صوت الوحي ينزل عليه ، وكان يخرج إلى الجبال وإلى الغار ، وينتظر الوحي في شوق كبير .
وتحقق له ما تمنى ، عاد إليه الوحي ، وكان هذه المرة في بيته ، فشعر بنفسه يرتعد ويرتجف ويرتعش ، ونادى زوجته خديجة لكي تضع فوقه الغطاء : دثريني .. دثريني ..(أي ضعي الغطاء عليّ ) ، فغطه السيدة خديجة في فراشه ، فسمع جبريل عليه السلام يقرأ بصوت لا يسمعه غيره : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) .
ثم توالى بعد ذلك نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ونزل القرآن الكريم آيات بعد آيات ، وكانت آخر آية نزلت فيه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) صدق الله العظيم.
وسأبقى أفخر أنا بأن بداية نزول الوحي ، نزول القرآن ، كانت ليلتي أنا ليلة القدر ، وقد كرمني الله ، وذكرني في القرآن وعظّم قدري ، وشأني وجعلني ليلة مباركة ، ومن هنا ينتظرني المسلمون كل عام في أيام رمضان الأخيرة ، لأنهم يعلمون أن أبواب السماء تفتح حين أصل ، وأن الله يستجيب في ليلتي كل دعاء .
بسم الله الرحمن الرحيم : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ ) صدق الله العظيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) صدق الله العظيم .